2025/04/04

"يوم التحرير" الأميركي: هل يقود الى أفول الهيمنة الأميركية؟

منذ عودته إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2025، وسّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتماده على التعريفات الجمركية كوسيلة في سياسته الخارجية، مستهدفاً المنافسين الاقتصاديين، مثل الصين، وأيضاً حلفاء رئيسيين، مثل كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي واليابان.

 

وفي ما سمّاه "يوم التحرير"، فرض ترامب تعريفات جمركية جديدة وواسعة النطاق، وشملت الإجراءات فرض ضريبة بنسبة 25% على السيارات المستوردة، و20% على جميع الواردات الأخرى، مع نسب أعلى استهدفت شركاء تجاريين محددين: %34 على الواردات الصينية، و%24 على الواردات اليابانية، و%20 على واردات الاتحاد الأوروبي.

 

يصوّر ترامب تعريفاته الجمركية على أنها تصحيح لعقود من الممارسات التجارية غير العادلة، زاعماً أن العولمة أضعفت القوة الصناعية الأميركية، وأن هذه التعريفات ستجبر الشركات على إعادة الوظائف إلى الولايات المتحدة من خلال جعل الواردات باهظة الثمن، وأن هذه الإجراءات ستعيد إحياء قطاعات عدّة داخل الولايات المتحدة ما يقلل الاعتماد على سلاسل التوريد الأجنبية.

 

والسؤال المحوري يبقى: كيف تؤثر هذه الإجراءات في هيمنة أميركا على العالم؟

في كتابه "العالم في حالة كساد: 1929-1939"، الصادر عام 1973، كان تشارلز كيندلبيرغر أول من تحدث عن نظرية "الاستقرار عبر الهيمنة"، واعتبر أن "الفوضى الاقتصادية والكساد الكبير بين الحربين العالميتين يعودان جزئياً إلى غياب قائد عالمي ذي اقتصاد مهيمن".

 

ووفقاً لتلك النظرية التي طوّرها روبرت جلبين في ما بعد، يعتمد الاستقرار الدولي على وجود قوة عظمى مهيمنة تقود النظام العالمي من خلال توفير السلع العامة (مثل الأمن، والاستقرار المالي، وقواعد التجارة الحرة). وتستفيد القوة المهيمنة من هيمنتها تلك، حتى لو تحملت تكلفة غير متناسبة لتوفير الأمن والسلع العامة. وهكذا، فإن التكامل بين الحماية والإنتاج يعني أن الحفاظ على النظام المهيمن يبقى مفيداً للقوة المهيمنة.

 

 ووفقاً لنظرية تراجع الهيمنة، فإن الهيمنة مؤقتة، ومحدودة بذاتها، وذاتية الهزيمة. تنمو الدول "المستفيدة مجاناً"، وتضع المزيد من الضغط على القوة المهيمنة، في حين تُدير الدولة القوية النظام الدولي وتوفر السلع العامة كعبء من أعباء وتكلفة الهيمنة.

 

ويقول جيلبين إن جميع القوى العالمية المهيمنة ستسقط حتماً في النهاية، لأن "التوسع" سيتجاوز "الفوائد" في مرحلة معينة، واعتماد الحمائية قد يقوّض المكاسب النسبية للمهيمن. ولهذا، فإن القوة المهيمنة المفرطة في الالتزام "ستكون أكثر ميلاً إلى التنازل عن سيطرتها على المناطق المتنازع عليها والتركيز على إدارة انحدارها السياسي والاقتصادي من خلال خفض الإنفاق الدفاعي والسعي إلى اتباع سياسات مالية ونقدية راديكالية". وبالتالي، سيحصل تغيّر في توزيع القوة في النظام، فتصعد دول أخرى وتتحدى القوة المهيمنة.

 

يحدد جيلبين 3 أسباب لتراجع الهيمنة

1. التكاليف الداخلية: العجز المالي والنفقات العسكرية المفرطة (حرب أوكرانيا، وحروب إسرائيل في الشرق الأوسط)

 

2. صعود منافسين في الساحة الدولية: الصين على سبيل المثال

 

3.عدم الرضا عن النظام الدولي، وهو ما شهدناه في يقظة الجنوب العالمي التي حصلت بعد حروب الغرب الجماعي، سواء في أوكرانيا أو في الشرق الأوسط (2022- 2025).

 

وكما يبدو، تحاول الإدارة الأميركية الحالية أن تقوم برد فعل دفاعي ضد هذه التحديات، لكن هذه الإجراءات قد تسرّع من تقويض الهيمنة بدلاً من تعزيزها، إذ إن الحفاظ على الهيمنة وتعزيزها يتطلب التمسك بالقيادة متعددة الأطراف وتوفير المنافع العامة للدول (مثل استقرار النظام الاقتصادي والأمن وغيرهما) والحفاظ على تحالفات قوية عبر التمسك بحلف الناتو والتحالف عبر الأطلسي.

 

وهكذا، يصبح أمام الولايات المتحدة، وللتعامل مع تكاليف الهيمنة الباهظة، ولئلا تخسر هيمنتها على العالم، السير في خيارات ثلاثة هي:

 

1. تجديد هيمنتها عبر الابتكار، كما فعل رونالد ريغان في الثمانينيات. يمكن للولايات المتحدة أن تجدد هيمنتها من خلال الابتكار التكنولوجي والاقتصادي، بدلاً من الاعتماد على القوة العسكرية أو الاقتصاد التقليدي فحسب، ما يعزز الميزة النسبية للدولة، ويسمح لها بالسيطرة على الصناعات الحيوية وتشكيل المعايير العالمية.

 

2. الانكفاء الحمائي الذي يقوده ترامب، وفيه مخاطرة بفقدان النفوذ العالمي رويداً رويداً عبر فقدان الثقة بالنظام الذي أرسته الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية وعزّزته بعد تفكك الاتحاد السوفياتي

 

3- التكيف مع تعددية الأقطاب، ولكن من الصعب على الأميركيين القبول به في الوقت الحاضر، حتى لو كان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قد قال أواخر شهر كانون الثاني/يناير الماضي إن العودة إلى عالم متعدد الأقطاب لا بدّ منه، وإن وجود قوة أحادية في العالم ليس بالأمر الطبيعي، وهو كان نتيجة لنهاية الحرب الباردة.

 

وبناء عليه، تشير سياسات ترامب الجمركية إلى تحول الولايات المتحدة من الهيمنة الليبرالية التي تنتفع وتقدم منافع للنظام إلى محاولة الهيمنة القسرية على العالم، أي من القيادة إلى الإكراه، إذ تتم الهيمنة عبر التهديد باستخدام القوة وبالحروب التجارية والعودة إلى الحمائية. هذه السياسات قد تقدم مكاسب قصيرة الأجل، لكنها تعرّض الهيمنة الأميركية للخطر على المدى الطويل، وقد تدفع إلى نظام عالمي أكثر فوضوية على المدى المتوسط.

  

2025/03/28

تقرير "تقييم التهديدات" الأميركي: إيران قوية ولكن

صدر التقييم السنوي للتهديدات لعام 2025، وهو التقرير الذي تعدّه أجهزة الاستخبارات الأميركية، وتحدد فيه التهديدات المحتملة ضد المواطنين الأميركيين والدولة والمصالح الأميركية في العالم.

 

تبرز الصين في التقرير جهةً فاعلة تشكّل الدولة الأكثر قدرة على تهديد المصالح الأميركية عالمياً، ثم تأتي كل من روسيا وكوريا الشمالية وإيران تهديداتٍ محتملةً على الرغم من أن التقرير يرى أن الصين تبقى "أكثر حذراً من روسيا وإيران وكوريا الشمالية بشأن المخاطرة في صورتها في العالم، اقتصادياً ودبلوماسياً، والظهور في مظهر عدواني".

 

في منطقة الشرق الأوسط، يتحدث التقرير عن كل من إيران وسوريا والتهديدات التي تأتي من المجموعات الإرهابية، وخصوصاً "داعش" وتلك المرتبطة بالقاعدة. ويقوم التقرير بمراجعة القدرات العسكرية والدبلوماسية والسيبرانية، والتحديات الداخلية التي تواجهها إيران، على الشكل التالي:

 

أولاً: القدرات العسكرية والاستراتيجية الإيرانية

يُدرج التقرير امتلاك إيران ترسانة صاروخية كبيرة تشمل الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيرة، والتي تُعَدّ حجر الزاوية في استراتيجيتها، دفاعياً وهجومياً. ومع ذلك، فإن التقييم الاستخباري يشير إلى أن إيران تواجه صعوبات في تعويض خسائرها العسكرية بسبب الضربات الإسرائيلية لمواقعها الدفاعية، وتراجع نفوذ حلفائها، مثل حزب الله والنظام السوري.

 

وفي التقييم، عسكرياً وأمنياً، يتحدث التقرير عن استمرار قوة إيران، في الحرب غير التقليدية، والتفوّق أيضاً في استخدام الوكلاء (مثل الحوثيين في اليمن) لضرب المصالح الأميركية والإسرائيلية من دون مواجهة مباشرة، بالإضافة إلى القدرات الصاروخية وتهديد مضيق هرمز وتعطيل إمدادات الطاقة العالمية. وعلى الرغم من أن سقوط نظام الأسد، الحليف الرئيس لطهران، يُعَدّ ضربة موجعة للمحور، فإن الجهات المنضوية في "محور المقاومة" لا تزال تُمثّل مجموعة واسعة من التهديدات في المنطقة.

كذلك، يتحدث التقرير عن فعالية القدرات السيبرانية الإيرانية، وخصوصاً بعد أن حدث تطور في القدرات الهجومية في القرصنة والتأثير الإعلامي عبر اختراقات موجَّهة (مثال: اختراق حملة ترامب عام 2024).

 

ويتحدث التقرير عن ردع إيراني "محدود" بعد "فشل" الضربات الإيرانية ضد "إسرائيل" عام 2024 في تحقيق نتائج حاسمة، وضعف القدرات التقليدية الإيرانية، بحيث يعاني الجيش الإيراني بسبب المعدات القديمة وضعف التدريب، وخصوصاً في القوات الجوية والبرية

 

أما في إطار البرنامج النووي، فيقول التقرير إن "إيران لا تُصنّع سلاحاً نووياً"، لكن النقاش الداخلي بشأنه يتصاعد في ظل تزايد التهديدات للأمن القومي الإيراني، على الرغم من أن المرشد علي خامنئي لم يغيّر قراره حرمة السلاح النووي.

 

ثانياً: الأبعاد السيبرانية والدبلوماسية

يتحدث التقرير عن أن إيران باتت لاعباً رئيساً في الحرب السيبرانية، بحيث تُنفذ عمليات هجومية ضد الولايات المتحدة و"إسرائيل" وحلفائهما. وتشمل هذه العمليات هجمات تصيد احتيالي، واختراقات لأنظمة حساسة، ونشر معلومات مضلِّلة لتعزيز نفوذها.

 

وعلى الصعيد الدبلوماسي، تسعى إيران لتعميق علاقاتها بخصوم الولايات المتحدة، مثل روسيا والصين، لتعزيز قدراتها الاقتصادية والعسكرية. كما تحاول تعزيز تعاونها مع دول الجنوب العالمي، ومع الدول الإقليمية العربية في الخليج.

 

ثالثاً: التحديات الداخلية وتأثيرها في استقرار النظام

يتحدث التقرير عن أزمة اقتصادية خانقة تعانيها إيران، تتمثل بانخفاض النمو، والتضخم المرتفع، وتبدّل أسعار الصرف، الأمر الذي يفاقم الاستياء الشعبي. وأدت الاحتجاجات الداخلية، مثل تلك التي اندلعت عامَي 2022 و2023، إلى زيادة الضغوط على النظام، الأمر الذي يهدّد استقراره.

 

في النتيجة، على الرغم من أن التقرير يركّز على ما يسميه "هشاشة" إيران، فإنه يعترف، في أجزاء وازنة منه، بأن استثمار إيران في جيشها وقواتها التقليدية كان مجدياً، ويجعلها قادرة على مواجهة التهديدات المتنوعة، ومحاولة ردع أي هجوم من الولايات المتحدة أو "إسرائيل" والدفاع في مواجهته.

 

بناءً عليه، إذا أخذنا في الاعتبار الأهداف التي تبغيها الولايات المتحدة من نشر التقرير، والذي يتجاوز، بصورة عامة، كونه مجرد وثيقة استخبارية لتقييم المخاطر والتهديدات، ليشكّل إنذاراً مبكّراً للمخاطر الأمنية المحتملة، وأداة للضغط على الخصوم، وآلية لتوجيه السياسة الخارجية الأميركية.

 

بناءً على ما سبق، فإن إشارة التقرير إلى ضآلة احتمال قيام إيران بتعويض خسائرها، وأن تشكيل تهديد كبير للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط هو ضئيل في المدى القريب، والتأكيد أن المرشد الأعلى علي خامنئي لا يرغب في توريط إيران في صراع مباشر وموسع مع الولايات المتحدة وحلفائها... تعني أن لا حاجة للإدارة للهرولة إلى التصعيد العسكري مع إيران، لأن إيران – بحسب التقرير- "قوية" في بعض المجالات (مثل الصواريخ والحرب غير التقليدية)، إلا أن التهديد الإيراني المباشِر للمصالح الأميركية، في المدى القريب، محدود، وخصوصاً مع تركيز طهران على مشاكلها الداخلية، وبسبب قرارها تجنب حرب كبرى في المنطقة.

  

2025/03/21

المرأة في السياسة: التحديات في إقليم متفجر

عند فهم الحركات الاجتماعية، من الضروري أن ندرك أنها ظواهر ديناميكية وتاريخية، وبالتالي فهي "تتشكل في إطار تاريخي معين، وتنمو أو تنكمش استجابةً لظروف موضوعية إمّا تمكّنها، وإمّا تعوّقها. وعليه، يجب فهم الحركات الاجتماعية من خلال الظروف التي توجد فيها، وليس بشكل منفصل، أي أن الزمن عامل حاسم في فهم الحركات الاجتماعية، وكذلك المكان والفضاء اللذين تعمل فيهما.

وهكذا، فإن نجاح الحركات الاجتماعية هو وليد اللحظة التاريخية، بحيث تتقاطع الظروف الاقتصادية، السياسية، والثقافية، لتفتح مسارات التغيير أو تغلقها.

تاريخياً، منذ أواخر القرن التاسع عشر بدأت الحركات التي تسعى للحصول على حق المرأة في التصويت والترشح، على الرغم من أن الحركات الاجتماعية الأخرى المرتبطة بتحرير العبيد وسواها كانت بدأت قبل ذلك بقرون.

بعد الحرب العالمية الثانية، توسعت الحركات النسوية، ومعها حركات السلام، ومناهضة العسكرة وسباق التسلح، وحركات البيئة، والحركات المناهضة للتمييز، عرقياً وإثنياً وجندرياً... إلخ. حدث هذا التوسع في سياق أزمات سياسية واقتصادية، وعلى إثر حروب كبرى، وظهور وسائل الإعلام الجماهيري، والتغيرات العلمية السريعة والتحولات التكنولوجية، والتوسع في تقنيات وسائل التواصل الحديثة.

اليوم، تسير منطقة الشرق الأوسط إلى منعطف حاسم يتّسم بعدم اليقين المستقبلي. وبالتالي، فإن المسار الذي ستتخذه المنطقة سيؤثر في مسار التقدم الذي يمكن أن تحققه النساء في السياسة في المنطقة ككل، وفي لبنان.

ونجد أن المنطقة يمكن أن تتجه إلى السيناريوهات التالية:

1. السيناريو الأول: الانتقال من الحروب والاستبداد إلى الديمقراطية.

2. السيناريو الثاني: الانتقال إلى دويلات طائفية، أو سيادة الأصولية الدينية.

3. السيناريو الثالث: ربط النزاع وبقاء الحال على حالها (أقله في المدى القصير).

في السيناريو الأول، بحيث تتعزز الديمقراطية ويتم احترام التنوع، يمكن للنساء الاستفادة من التطورات لتأسيس حركات سياسية جديدة خارج الإطار الطائفي التقليدي، مستفيدة من فشل المنظومة القديمة في تأسيس دول حديثة.

وهذا يحتاج أن تخرج المرأة من التركيز على الإطار الجندري وتعزيز الخطاب الذي يتحدث عن الإصلاح والتنمية الاقتصادية والبيئة... إلخ، أي الخروج إلى إطار عام أرحب، وخصوصاً في ظل الحاجة الماسّة إلى سياسات أكثر شمولاً.

تحقُّقُ السيناريو الثاني سيؤدي إلى انكماش في المساحة الديمقراطية، وسيتم تضييق العمل السياسي، عبر صعود التيارات الدينية الأصولية، التي ستقوم حتماً بمزيد من الإقصاء والتهميش للحركات النسائية.

كيف يمكن للنساء مواجهة هذا الاتجاه؟
- الاستفادة من الضغط الدولي على السلطات الجديدة لتعزيز دور المرأة.

- التركيز على روايات بديلة تُبرز دور المرأة في الأزمات محركاً أساسياً للحلول، وليس عنصراً هامشياً، كما يراها الاصوليون.

- بناء تحالفات مع القوى المعتدلة داخل الأحزاب السياسية لتعزيز خطاب أكثر تقدمية بشأن المرأة.

أما في المسار الثالث، وهو المرجَّح في المدى القصير، فيمكن للنساء إطلاق حملات لفرض قوانين أكثر إنصافاً للنساء في السياسة. لا يزال لبنان يفتقر إلى قوانين تضمن مشاركة نسائية عادلة في السياسة، مثل الكوتا النسائية، على سبيل المثال، لا الحصر.

كذلك، يمكن استخدام الضغط، إعلامياً ومجتمعياً، لتغيير الرأي العام بشأن دور المرأة في الحكم، وإنتاج محتوى سياسي يعكس صورة أكثر واقعية وتقدمية عن دور النساء في السياسة.

في المحصلة، المطلوب اليوم ليس فقط زيادة عدد النساء في السياسة، بل المطلوب أيضاً تغيير جذري في الثقافة السياسية، بحيث تصبح مشاركة المرأة في مواقع صنع القرار أمراً طبيعياً، وليست استثناءً.

زد على ذلك، أن هناك حاجة ماسّة إلى تطوير خطاب سياسي نسوي جديد وواضح، لا يقتصر فقط على قضايا "المرأة"، بل يشمل الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأشمل. وذلك يتطلب من النساء الخروج من الأنا النسوية، للتركيز على قضايا الفقر، والفساد، والعدالة الاجتماعية، والأمن، وغيرها من القضايا، من أجل جذب دعم أوسع من المجتمع، عبر معالجة قضاياه الملحّة.

 

2025/03/17

معضلة استقلال أوروبا الأمني: هل تؤدي إلى تفكك الاتحاد؟

منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يعيش الأوروبيون هاجس قيام الأميركيين بالتخلي عن سياسة عمرها نحو ثمانية عقود تقوم على الالتزام بالأمن الأوروبي في مواجهة التهديدات الخارجية. وهكذا، وفي مواجهة عدم اليقين الذي وضعتهم فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب، يتدارس الأوروبيون فكرة "الاستقلال الأمني الاستراتيجي".

 

أصبح الاستقلال الاستراتيجي الدفاعي لأوروبا قضيةً مُلحّة تطرح على بساط البحث في الدول الأوروبية كلّ على حدة، وفي مؤسسات الاتحاد بشكل عام، وتهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على القوى الخارجية ومنها الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترته الأولى والحالية أن على أوروبا أن تقوم بالدفاع عن نفسها بنفسها، وأن على الدول الأوروبية زيادة موازناتها الدفاعية ومساهماتها في حلف "الناتو" لتقليص الاعتماد على الدعم العسكري الأميركي إذ تئن الميزانية الأميركية تحت وطأة الإسراف في الموازنات الدفاعية والتسلح وتتقلص الأموال لتنمية البنى التحتية في الداخل، وبالتالي تتقلص البحبوحة التي كان يعيشها المواطنون الأميركيون من الطبقات المتوسطة.

 

وعلى هذا الأساس، طرحت المفوضية الأوروبية خطة "إعادة تسليح أوروبا" ReArm Europe ، بهدف تحسين الاعتماد على الذات في مواجهة التحديات الأمنية التي تعيشها أوروبا، وإلى تعزيز الإنفاق الدفاعي والتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي، ويشمل ذلك آليات مالية مثل القروض للمشتريات الدفاعية المشتركة وزيادة الاستثمارات العسكرية.

 

تُركز الخطة التي طُرحت من قبل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين على الحاجة إلى توفير ما يصل إلى 800 مليار يورو للدول الأعضاء لتعزيز إنفاقها الدفاعي، وذلك على الشكل التالي:

 

- الجزء الأول من الخطة ينص على تفعيل "بند الإعفاء الوطني من ميثاق الاستقرار والنمو"، وتخفيف "القيود المالية المفروضة على الدول الأعضاء" لزيادة التمويل العام المخصص لمشاريع الدفاع، وهذا يسمح بزيادة الإنفاق الدفاعي للدول بنسبة 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

 

- أما الجزء الثاني، فيتألف من قروض بقيمة 150 مليار يورو ستُقدم للدول الأعضاء لتمويل استثمارات دفاعية أقرتها المفوضية. وستُمكّن هذه الأداة بشكل خاص من إجراء عمليات شراء مشتركة لأنظمة المدفعية والصواريخ والطائرات المسيرة وغيرها من القدرات الدفاعية.

 

تسعى المفوضية من خلال هذه الآلية، لتعزيز قدرة الاتحاد على الاستمرار بدعم أوكرانيا عسكرياً من أجل استنزاف الروس واستمرار الحرب بعد قرار دونالد ترامب بقطع المساعدات العسكرية عن أوكرانيا (بالرغم من أنه عاد وأقرّ استمرارها بعد موافقة الأوكران على هدنة لمدة 30 يوماً على إثر المحادثات التي عقدوها مع الأميركيين في جدّة).

 

لا شكّ، إن العرض النظري للخطة والذي يبدو واعداً لا يعني التوقّع أن تؤدي هذه الخطة إلى "استقلال أمني استراتيجي" أوروبي خلال وقت قصير ومتوسط، ومن غير المعروف إذا كانت تلك الخطة تستطيع أن توفّر الضمانات الكافية للدول الأوروبية (لا سيما دول أوروبا الشرقية) التي تعدّ نفسها مهددة أمنياً من قبل الروس.

 

ولأن الخطة لا تبدو كافية عملياً، تشخص الأنظار إلى الدولتين القائدتين في الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بمهمة قيادة " دفاع مستقل" لأوروبا، ولتعويض الفراغ الاستراتيجي الذي سيتركه الانسحاب الأميركي من التعهدات الدفاعية لأوروبا، وعلى هذا الأساس عرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتوسيع نطاق الردع النووي الفرنسي ليشمل الدول الأوروبية الأخرى، لكن خطر نشوب حرب مع الروس من جرّاء هذا العرض يجعله بعيداً عن القبول به من قبل الدول الأوروبية، خصوصاً تلك المجاورة لروسيا، أو قابلاً للتحقق على الصعيد العملي بسبب مخاطره العالية.

 

أما المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز فيعد بتعزيز الإنفاق العسكري والتعاون مع الحلفاء الأوروبيين في مجال الدفاع، حيث يعرض أن يتم زيادة الاستثمار في الدفاع لتصل إلى 500 مليار يورو، وتخطي القيود الصارمة التي تحظّر توسّع الدين العام الألماني.

 

في المحصلة، يجد الأوروبيون أنفسهم أمام معضلة أمنية جديدة، تفرض عليهم النظر إلى مستقبل الاتحاد بطريقة مختلفة، وحيث بات عليهم المفاضلة بين: الإنفاق على الدفاع للوصول إلى استقلال دفاعي استراتيجي، أو الإنفاق على التنمية وتعزيز النمو الاقتصادي للإبقاء على رفاهية الشعوب الأوروبية، وبالتالي استمرار بقاء الاتحاد كتلة موحّدة.

  

2025/03/09

رسالة من ترامب: إمكانية نجاح مسعى الحوار مع إيران

في مقابلة تلفزيونية، كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه يريد التوصّل إلى اتفاق جديد بخصوص البرنامج النووي الإيراني، وأنه لتحقيق هذا الهدف قام بإرسال رسالة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي. هذا الكشف يعيد التذكير برسالة مماثلة أرسلها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المرشد الأعلى الإيراني عام 2009، لكنّ الخامنئي اتهم حينها الرئيس أوباما بأنه "يمدّ لنا يداً بقفاز ناعم لكن تحتها ربما تبدو هناك يد من حديد".

 

ويضيف "الرئيس الأميركي الجديد يرسل إلينا رسالة تهنئة بمناسبة العام الجديد لكن في الوقت نفسه يتهمنا مرة أخرى بدعم الإرهاب وبالسعي لحيازة أسلحة نووية".

 

وفي مناسبة أخرى، وفي عام 2014، كشف الإعلام الأميركي أنّ الرئيس أوباما أرسل رسالة ثانية إلى المرشد الأعلى الإيراني طلب خلالها الأول من الأخير التفاهم حول مشاركة إيران في الحرب على "داعش" وإظهار مرونة في المفاوضات النووية تقود بدورها إلى اتفاق نهائي ومرضٍ بهذا الصدد.

 

هل ينجح مسعى ترامب الجديد لاتفاق نووي مع إيران؟

لا شكّ يريد الرئيس دونالد ترامب إنهاء النزاعات في كلّ من أوروبا والشرق الأوسط، وتخفيف الانخراط الأميركي في المنطقتين الحيويتين للتفرّغ لمواجهة التهديد الصيني المتعاظم عالمياً، والتفرّغ لمواجهة أجنحة الدولة العميقة في الداخل التي قد تمنعه من تنفيذ سياساته (كما حصل في فترته الأولى)، وكذلك الاهتمام بالوضع الاقتصادي الأميركي الذي يعاني من تضخّم هائل وهجرة الصناعات وارتفاع معدلات البطالة وازدياد الدين العام.

 

وبمقارنة تصريحات ترامب في فترته الأولى والحالية، نجد أنّ سقف المطالب الأميركية للتفاوض مع إيران قد تراجع، ففي الفترة الرئاسية الأولى كان ترامب يريد التفاوض على نفوذ إيران الإقليمي، وبرنامجها الصاروخي، وبرنامجها النووي، بينما يقوم ترامب حالياً بحصر موضوع التفاوض بعدم حيازة إيران سلاحاً نووياً، وهو الذي يعتبره الأميركيون خطاً أحمر.

 

وهذا السقف الجديد الذي يضعه ترامب يمكن للإيرانيين القبول به والتعامل معه، إذ عمدوا في الآونة الأخيرة الى الإعلان أنّ هناك فتوى تحرّم حيازة السلاح النووي واستخدامه، وأنّ برنامجهم كان وسيبقى سلمياً.

 

لكنّ الأسلوب التهديديّ الذي تحدّث به ترامب، وعرضه "الاتفاق وإلّا الحرب"، ليس إلّا تكراراً لرسالة أوباما الأولى التي أشرنا إليها، والتي أجاب عليها المرشد بالقول "لن نقبل أيّ عرض للمفاوضات يسير جنباً إلى جنب مع القوة، سنرى إذا تغيّرت السياسة الأميركية بالفعل سوف نتغيّر نحن أيضاً، لكن يجب أن تتغيّر الأهداف وليس التكتيكات فقط".

 

أما في الإطار الإقليمي، فتختلف ظروف الإقليم الحالية عن الفترة التي حصل فيها الاتفاق النووي الإيراني السابق مع الرئيس باراك أوباما عام 2015، فمن ناحية أولى خفّت حدّة الرفض الإقليمي للاتفاق، مع التفاهمات الإقليمية بين إيران والسعودية ومن بعدها دول الخليج الأخرى، بينما بقي الرفض الإسرائيلي على حاله، لا بل ازداد حدّة، خاصة بعد التهديدات الإسرائيلية المتزايدة بحرب على إيران.

 

وفي هذا الإطار أيضاً، أعلنت القيادة المركزية الأميركية في الأسبوع الأول من شهر آذار/مارس أنها نفّذت مهمّتها الثالثة خلال أسبوعين، والتي شملت وحدة قاذفات استراتيجية في الشرق الأوسط، وذلك بهدف "تعزيز التنسيق مع الشركاء الإقليميين وإظهار قدراتها العسكرية".

 

وتأتي أهمية هذا الإعلان أنه أتى في أعقاب تصريحات أدلى بها إيال زامير، رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد، الذي أعلن أنّ عام 2025 سيركّز على الصراع في غزة ومع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه سوف تتمّ إعادة هيكلة استراتيجية "الجيش" الإسرائيلي للتعامل مع التهديد الإيراني على وجه التحديد.

 

وبالتزامن مع تلك التصريحات الأميركية والإسرائيلية المتناغمة، أعلن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أنّ المرشد الأعلى وجّه المفاوضين الإيرانيين إلى إيقاف الحوار مع الأميركيين، وبالتالي حكومته ستلتزم بوقف التفاوض، ما دفع ترامب لإرسال رسالة إلى الخامنئي تماماً كما فعل الرئيس الأسبق باراك أوباما حين تواصل مباشرة مع المرشد.

 

وهكذا، يمكن فهم الترابط بين التصعيد الأميركي – الإسرائيلي المشترك وبين دعوة المرشد إلى عدم التفاوض مع الأميركيين تحت الضغوط، كذلك فهم التصعيد الإسرائيلي العسكري في لبنان والقيام بعشرات الغارات الجوّية، وهي الأكبر منذ وقف إطلاق النار، في اليوم الذي كُشف فيه عن رغبة أميركية بالحوار مع إيران، وفي ما يبدو أنه ردّ إسرائيلي تصعيديّ لاستجلاب ردّ لبناني مقابل، في محاولة لخلط الأوراق الإقليمية من جديد بعد قيام ترامب بالكشف عن رسالة أرسلها للمرشد الأعلى علي الخامنئي يدعوه فيها للحوار.

  

2025/03/01

اشتباك ترامب – زيلينسكي: مرآة الخلاف العمودي والأفقي داخل الغرب الجماعي

تابع العالم الاشتباك الكلامي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والذي عكس عمق الخلاف بين وجهة نظر أوكرانيا، ومعها عدد من دول الغرب، ووجهة نظر الولايات المتحدة بشأن مصير الحرب الأوكرانية، وما يمكن أن ينتج من هذه الاختلاف من تعميق الأزمات داخل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.

 

كان واضحاً من المواقف المتشنجة للرئيس الأوكراني، الذي بادر الى الاشتباك ومساءلة جي دي فانس عن المسار الدبلوماسي الذي يدعو إليه الأميركيون، أن زيلينسكي قادم الى الولايات المتحدة، لا ليسير وفق ما يريده ترامب، بل ليؤكد المواقف، التي أعلنها القادة الأوروبيون، الذين زاروا واشنطن مؤخراً، ويبدو أنه كان تلقّى جرعات من الدعم الأوروبي قبل وصوله، وإلا لما تجرأ على الاشتباك مع ترامب في البيت الأبيض، وأمام الصحافة العالمية.

 

وهكذا، انتقل الخلاف الأطلسي - الروسي الى خلاف أفقي وعمودي داخل الغرب الجماعي، وداخل حلف شمال الأطلسي نفسه.

 

خلاف ضمن الغرب الجماعي

ليس الموقف تجاه روسيا وحده ما يقسم الغرب، بل عدد من الأمور الإشكالية، التي ترى إدارة ترامب أنها استغلال للولايات المتحدة من جانب حلفائها، وأن الحلفاء يقومون بتنمية دولهم على حساب الولايات المتحدة، التي تقوم بالصرف على أمنهم وأجنداتهم العالمية.

 

واقعياً، هذا الخلاف هو استكمال لمسار إشكالي عبّر عن نفسه خلال فترة ترامب الأولى، وحيث احتفل الرئيس السابق، جو بايدن، خلال لقائه الأول مع الأوروبيين بعد انتخابه رئيساً، بالقول "لقد عادت أميركا America is back".

 

ومنذ عودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض بموجة حمراء جمهورية، عاد الخلاف داخل الغرب الجماعي، عبر إعلان ترامب رغبته في السيطرة على غرينلاند، وتحويل كندا الى الولاية الـ51 ضمن الولايات المتحدة الأميركية، وفرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك، وعلى عدد من صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، لأن الجميع يستفيد من الولايات المتحدة ومن خسارتها الاقتصادية، كما يعتقد ترامب.

 

ويمتد الخلاف بين الحلفاء من الأمن الى ما يسميه الأميركيون "القيم الديمقراطية وحرية التعبير"، والتي تمتد لتطال الشركات الأميركية، وليس فقط المواطنين في أوروبا، كما عبّر نائب الرئيس الأميركي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن.

 

وبعد تنصيب ترامب، سارع الاوروبيون الى عقد قمم طارئة للبحث في إشكالية الأمن الأوروبي في حال قرر ترامب التراجع عن المظلة الأمنية، التي يوفرها الأميركيون للقارة. ومن المقرر عقد قمة رئيسة أخرى في لندن، يستضيفها رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر. سيجتمع أكثر من إثني عشر زعيماً أوروبياً وأوروبياً، بمن في ذلك زيلينسكي، لحضور اجتماع يهدف إلى دفع العمل بشأن أوكرانيا والأمن الأوروبي الشامل.

 

الانقسام الأفقي داخل أوروبا نفسها

مباشرة، بعد الاشتباك بين زيلينسكي وإدارة ترامب، أدلى عدد من الزعماء الأوروبيين، ومعهم رئيس وزراء كندا ومسؤولون في حلف شمال الأطلسي، بتصريحات داعمة لزيلينسكي وأوكرانيا، من دون تسمية ترامب أو الأميركيين صراحة.

 

وعبّرت كايا كالاس، الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، عن دعم زيلينسكي في مواجهة ترامب، بالقول إن "أوكرانيا هي أوروبا! نحن نقف إلى جانب أوكرانيا. وسنكثف دعمنا لأوكرانيا حتى تتمكن من الاستمرار في محاربة المعتدي". وأضافت: "اليوم، أصبح من الواضح أن العالم الحر يحتاج إلى زعيم جديد. الأمر متروك لنا، نحن الأوروبيين، لقبول هذا التحدي".

 

وفي حديث مباشر إلى زيلينسكي، كتبت أورسولا فون دير لاين، رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي: "كرامتك تكرم شجاعة الشعب الأوكراني. كن قوياً، كن شجاعاً، كن بلا خوف. أنت لست وحدك أبداً". وأضافت: "سنواصل العمل معك من أجل سلام عادل ودائم".

 في المقابل، يتسرب الانقسام أيضاً الى داخل اليمين الأوروبي، ففي حين يقف عدد من مسؤولي اليمين الأوروبيين، مثل رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، ورئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، الى جانب ترامب، وقف اليمين السويدي الحاكم الى جانب زيلينسكي.

 

واقترحت رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني "قمة فورية" بين الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين "للتحدث بصراحة عن الكيفية التي نعتزم بها مواجهة التحديات الكبرى اليوم، بدءاً بأوكرانيا". وحثت الغرب على البقاء متحداً.

 

في المحصلة، من الصعب على الأوروبيين وعلى أوكرانيا الاستمرار في حربهم مع الروس من دون الدعم الأميركي. فإذا قرر ترامب التخلي عن الدعم العسكري لأوكرانيا وتخفيف العقوبات على روسيا، فسيكون الاتحاد الأوروبي أمام مازق كبير لم يشهده منذ الحرب العالمية الثانية.

  

2025/02/18

هل ينهي ترامب مرحلة توسّع "الناتو"؟

في فترة أقلّ من شهر، قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمجموعة من الخطوات السياسية والأوامر التنفيذية التي أثارت القلق لدى حلفائه وأعدائه، وقد يكون قلق الحلفاء أشدّ وطأة وعمقاً من ريبة الأعداء.

 

وبسبب التخوّف من سياسة ترامب المقبلة بخصوص أوروبا، يعقد في باريس اجتماع أوروبي بحضور الأمين العامّ لحلف شمال الأطلسي مارك روته، لمناقشة مستقبل السياسة الخارجية للقارة والتعامل مع التحدّيات المستجدّة، وأهمّها الحرب الأوكرانية ومستقبل حلف "الناتو" الذي يبدو على المحكّ.

 

تاريخياً

تأسس حلف شمال الأطلسي "الناتو" من 12 دولة بهدف الدفاع المشترك، وذلك في بداية الحرب الباردة، وكان الهدف منه احتواء الشيوعية ومنع تمدّدها ومواجهة الاتحاد السوفياتي.

 

فيما بعد، انضمّت اليونان وتركيا إلى الحلف عام 1952، وألمانيا الغربية عام 1955. في المقابل، أسّس حلف الاتحاد السوفياتي حلف وارسو، الذي تفكّك مع تفكّك الاتحاد في بداية التسعينيات من القرن الماضي.

 

خلال نهاية الحرب الباردة، وأثناء المفاوضات بشأن إعادة توحيد ألمانيا عام 1990، قدّم الأميركيون والدول الغربية ضمانات للزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بعدم تمدّد "الناتو" إلى الشرق وإلى حدود روسيا.

 

لكنّ الضمانات تلك لم تكن مدرجة باتفاقية رسمية موقّعة من الأميركيين، بل كانت ضمانات غير مكتوبة. وبالرغم من أنها مدرجة في العديد من الوثائق الرسمية، يعمد الغربيون الى إنكار وجود مثل تلك الضمانات.

 

مع تدخّل حلف "الناتو" في كوسوفو عام 1999، خارج إطار الشرعية الدولية ومن دون قرار من مجلس الأمن، وجد الأميركيون أنّ الحلف يمكن أن يؤدّي غايات عسكرية تدخّليّة لصالحهم في العالم، ويمنع عودة الهيمنة الروسية في أوروبا الشرقية، فاتخذوا قراراً بتوسيع الحلف لضمّ بلدان حلف وارسو السابقة ودول البلطيق.

 

بدأ توسّع الحلف عام 1999، ثمّ مع اعتماد إدارة جورج بوش الابن سياسة "احتواء الصعود الروسي" تزامن توسّع الحلف مع مجموعة من الثورات الملوّنة في أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى (2003-2005).

 

أعلن الروس صراحة أنّ انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف هو خط أحمر روسي، وسيتسبّب بحرب. وبالفعل، تسبّبت رغبة الرئيس الجورجي ساكاشفيلي بضمّ الأقاليم التي تتمتّع بحكم ذاتي بدخول عسكري للقوات الروسية إلى جورجيا وإعلان استقلال كلّ من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وهزيمة الجيش الجورجي عام 2008.

 

تأثير الحرب الأوكرانية

منذ عام 2014، وبعد الثورة الأوكرانية الثانية، والتي يطلق عليها الروس "الانقلاب"، يتمّ الحديث عن دخول أوكرانيا في حلف "الناتو" من دون التوصّل فعلياً لهذا الأمر.

 

وفي تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2021، وقّعت الولايات المتحدة وأوكرانيا ميثاق شراكة استراتيجية تدعم حقّ أوكرانيا في دخول حلف "الناتو"، وهو ما اعتبرته روسيا خطاً أحمر، فهدّدت بالتصعيد، ودعت الأميركيين والأوروبيين إلى التفاوض لإعلان حياد أوكرانيا.

 

رفض وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن هذا الأمر، وتسبّب الرفض الغربي بالحديث عن إمكانية حياد أوكرانيا إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في شباط/فبراير من عام 2022.

 

وكان تأسيس "مجلس حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا" لتعميق التعاون والالتزام بعضوية أوكرانيا المستقبلية، عاملاً إضافياً في تصوّر التهديدات الروسية الذي سعّر الحرب الأوكرانية وجعلها مسألة أمن قومي روسي لا يمكن التفريط به.

 

انخرط حلف "الناتو" بفعّالية في الحرب الأوكرانية، بتقديم المساعدات العسكرية المختلفة لأوكرانيا، بالإضافة إلى المساهمة في التدريب والتجسس وحرب المعلومات، وتقديم أسلحة متقدّمة مثل الدبابات وأنظمة الدفاع الجوي والطائرات من دون طيار والمدفعية، وإطلاق الصواريخ إلى الداخل الروسي.

 

من ناحية أخرى، استغلّ الحلف نشوب الحرب الأوكرانية ليتوسّع ضمن أوروبا وعلى الحدود الروسية فيضمّ كلّاً من فنلندا والسويد، وينشر قوات إضافية في الدول الأعضاء المتاخمة لروسيا وأوكرانيا، كبولندا ورومانيا ودول البلطيق.

 

في حملته الرئاسية كرّر دونالد ترامب بأنه يسعى لحلّ الأزمة الأوكرانية في أوّل يوم من تنصيبه، واتهم الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بأنه تاجر جيّد، يحصل على الأموال التي يريدها كلما أتى إلى واشنطن. وبالفعل، حصل اتصال مؤخّراً بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين واتفقا على إنهاء الحرب والتوصّل إلى سلام.

 

مؤخّراً، أعلن وزير الدفاع الأميركي خلال زيارته إلى أوروبا، أنّ القرار الأميركي قد اتخذ: لا دخول لأوكرانيا في حلف "الناتو"، ولا عودة للأراضي الأوكرانية إلى حدود ما قبل 2014، ولا قوات أميركية كجزء من قوة حفظ السلام في أوكرانيا.

 

عملياً، بعد قيام الكونغرس الأميركي في كانون الأول/ديسمبر من عام 2023، بإقرار قانون يمنع أيّ رئيس أميركي من الخروج من حلف شمال الأطلسي من دون موافقة مجلس الشيوخ أو بإصدار قانون من الكونغرس، تتعطّل قدرة الرئيس الأميركي ترامب على الانسحاب من حلف "الناتو" بسهولة كما كان يهدّد خلال فترته الأولى، لذا فهو يعمد إلى إضعاف الحلف من خلال ما يلي:

 

 - الضغط على الدول الأعضاء لزيادة موازناتها لغاية 5% من الناتج القومي، وهو أمر متعذّر بسبب الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها منذ جائحة كورونا، والحرب الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة والتضخّم والركود.

 

- أعلن ترامب خفض الدعم لأوكرانيا على أن تقوم أوروبا بتوفير الحصة الساحقة من المساعدات العسكرية وغير العسكرية المستقبلية لأوكرانيا. وهنا يبرز موضوع إعادة الإعمار، والجهة التي ستقوم بذلك، إذ إنّ الروس سيطالبون بالإفراج عن الأموال الروسية المجمّدة والتي كان الأوروبيون يستخدمونها لمساعدة أوكرانيا.

 

- قطع الطريق على انضمام أوكرانيا إلى "الناتو"، وهو موضوع كانت قد تصلّبت فيه إدارة بايدن التي أعلنت أنّ حقّ أوكرانيا في الانضمام إلى الحلف لا مساومة عليه.

 

وعليه، بنتيجة المحادثات التي تجري لإنهاء الحرب الأوكرانية، لن يقبل الروس بتكرار خطأ غورباتشوف حيث يثقون بتعهّدات شفهية من الأميركيين، بل سيطالبون بتعهّدات خطية بحياد أوكرانيا وعدم انضمامها للحلف في المستقبل، وعدم توسّع "الناتو" إلى حدودهم، وهو ما يبدو ترامب مرناً في قبوله.